فارقت قلبي يا جواد
تراءى أمام ناظرهم الزجاج الذي هشم جسد العزيز على قلوبهم جميعا.. وبلا حراك وصمت مطبق يجوب الأزقة وحتى الشوارع .. غابت عنها أصداء الفرحة والحراك .. يصارعهم الألم دائما؛ جميعا وأشتاتا وما كان يقوى عليهم. هذه المرة وبلا منازع يفوز برغم تجمعهم معاً ..
نقص من الشلة اثنان لا واحد ..شهيد وفقيد.. كلاهما ذهب ولم يعد ..، وأين الفرار من الموت ؟!
ولكن ما بال الآخر كان الحاضر دائما ...؟!!!!
سيعود يا أمي سيعود.. وأنا أقر في نفسي وأردد .. : هيهات له العودة والحال هذه..الشارع يملأه الرصاص والمدينة ما عادت ترحب بضيوفها والعيون تترقب كالذئاب كل كائن حي فتقضي عليه..
أخي جواد.. فاضت عيناي بالدمع على فراقك..أمي تعبت.. جواد ارجع أرجوك ،قبل يداها ورأسها كالسابق لتسمع رضاها عنك..
كنت القائد دائما فَلِمَ رحلت.. وأين أنت الآن ؟! أتراك تأكل وتشرب أم أن الموت يضاجعك فلا تقوى على العودة.. آه.. كم من الوقت مضى على غيابك ، أعد الأيام للقائك من جدبد ..
جواد..
افرح فنحن مازلنا نجاهد ولن نتوقف حتى النصر إن شاء الله.. ورغم غيابك فنحن مازلنا نخرج كل يوم ومطالبا مازالت كما هي لم يتحقق شيء منها.. مازالت بلدتنا كما عهدتها وردة دامية تقدم كل يوم الشهداء والجرحى في سبيل الحرية.. ولعل الغد يكون أفضل..
مضى شهران من قحط ونقص في الأموال والأنفس وما زال الحال كما هو.. أخي جواد الغائب الحاضر في قلوبنا دائما وأبداً ومطالبنا تصارع الرصاص.. والعدو صهر كل خلق حسن من قلبه..
ذات يوم أضاءت بلدتنا على خير سار..
أمي ..أمي.. أخي جواد .. جواد يا أمي مازال حيا ..
لم تسع قلوبنا الفرحة وكدنا نخاطر بأنفسنا لرؤيته , ولكن التروي غمرنا جميعا في سبيل أن تكمل فرحتنا ..
وعرفت بعدها من الرجل صاحب الرسالة أن جواد يريد مقابلتي وبشكل سري قبل عودته إلى هنا ..تلثمت بلثام الفرحة وجعلت الأسطح والأزقة يصاحبها ظلام دامس سبيلي للقائه ..انتظرته وليس كثيرا.. قدم كقدومي متلثماً بقطعة قماش لم أعهده صاحبها .. بل كان المنديل العربي الأصيل ملجأه دائما ..
أتي تصاحبه الدموع .. رأيتها تلمع لكثرتها.. لم أنتظر وصوله إلي ركضت نحوه وحضنته بشدة .. بادرني بتحية تعجبتها ولكن لم اكترث فقد فاقت فرحتي كل حدود ... أخي جواد كنا نترقب عودتك.. كلنا مشتاقون ، أمي تدعو ليل نهار لترجع لحضنها سالما غانما.. عمي وخالتي.. الكل ينتظرك بلهفة وقد زينوا البيوت وحضروا أنفسهم للقائك.. ولكن أحمد صديقك.. فارق الحياة ..استشهد وهو يناضل ويكافح .. ولا زلنا برغم الجراح نقاتل ونجاهد للنيل منهم .. للثأر لأحمد والشهداء جميعهم..
جواد .. لم أنت صامت؟! قل كيف أنت وأين كنت ؟!
تنهد ثم نظر إلى السماء وقال : كنت آخر من رآه .. أجل أحمد، صديقي اعذرني.. رغما عني ..
قلت وبلهفة حزينة: ماذا تقصد.. لم تطلب السماح منه ؟ ماذا فعلت به ؟
قال : كل شيء .. أنا الجريح لفقده ولكني كنت السبب .. يا ويحي منك يا أحمد .. أنا الآن شيء مختلف تماما .. أنا.. أنا ..
لا تقلها .. أنت معهم .. عميل يا جواد.. نالتك قذارتهم .. الله أكبر الله أكبر .. حسبنا الله ونعم الوكيل.. ألا يستحق هذا التراب الطهور أن نحميه ؟!! أم أن القضية تلاشت من قلبك.. تكلم يا جواد.. الآن تصمت.. ماذا فعلت .. أنت قتلت أحمد .. تجرأتُ على قميصه وهززته وصحت فيه : أنا أخوك يا جواد .. أرجوك اسمعني ..
أفلت يداي عنه وهو يقول : فات الأوان ..
ذهب .. ليتني متُّ قبل هذا.. بل ليتك متَّ قبل هذا..
غادر دون النطق بأي كلمة أخرى.. ومضيت وأنا أردد حسبنا الله ونعم الوكيل.. حسبنا الله ونعم الوكيل ..
وصلت البلدة متناسياً أمر الرصاص الذي كان يخرج لنا من جوف الأرض وأفكر في رصاصة اخترقت قلبي دون دماء ..!!
طرقت باب البيت.. فُتح الباب.. وإذا بالجميع تجمهروا للاحتفاء بجواد.. دخلت منغمسا في أفكاري.. صاح الجميع أين جواد أين هو ؟! تلفتُّ حولي فإذا بأمي المسكينة تصارع شوقها للقاه .. تنتظر إجابتي.. قلت لها : أللوطن ثمن يا أمي ؟! صاحت فيَّ وقالت: ماذا تقول .. وأين جواد .. أين هو .. ألم يأتي معك ..؟!!
ضحكت ضحكة المجنون وقلت: جواد .. جواد مات .. شهقوا جميعاً شهقة الباكي الحزين الصامت المفجوع بالعزيز..
غادرتهم إلى غرفتي وأنا أقول :
فارقت قلبي يا جواد ..