الماء يغسل مبالثوب من درن ولا يغسل قلب المذنب
موضوع هذه الحلقة الزهد، وقد جمعت من عين التراث بعضاً مما قيل عن الزهد.
قيل: ابن آدم إنك لم تزل في هدم عمرك مذ أُسقطت من بطن أمك. قال الشاعر: إنَّا لنفرح بالأيام نقطعها/ وكل يوم مضى يدني من الأجلِ/ فأعمل لنفسك قبل الموت مجتهداً/ فإنما الربح والخسران في العملِ.
وقيل: لا تزهد الدهر في عرف بدأت به/ كل امرئ سوف يُجزى بالذي فعلا.
يقول الحطيئة: ولستُ أرى السعادة جمع مالٍ/ ولكن التقي هو السعيدُ/ وتقوى الله خير الزاد ذخراً/ وعند الله للأتقى مزيدُ/ وما لا بد أن يأتي قريبٌ/ ولكنّ الذي يمضي بعيدُ.
أزهد من أويس
وقال بعضهم: كان عمر بن عبدالعزيز أزهد من أويس، لأن عمر مَلك الدنيا فزهد فيها، وأويس لم يملكها فقيل: لو ملكها لفعل كما فعل عمر، فقال: ليس من لم يجرب كمن جرب.
بلاغة الغلام الزاهد
قال أحدهم: رأيت بالبادية غلاماً لم يبلغ الحلم وهو يمشي وحده ويحرك شفتيه، فسلمت عليه فرد السلام، قلت: إلى أين؟ فقال: إلى بيت ربي عز وجل، قلت: لماذا تحرك شفتيك؟ قال: أتلو كلام ربي، قلت: إنه لم يجر عليك قلم التكاليف، قال: رأيت الموت يأخذ من هو أصغر سناً مني. قلت: خطاك قصيرة وطريقك بعيدة، فقال:
إنما علي نقل الخطا، وعليه البلاغ، قلت: أين الزاد والراحلة؟ قال: زادي يقيني وراحلتي رجلاي، فقلت: أسألك عن الخبز والماء؟ قال: يا عماه أرأيت لو دعاك مخلوق إلى منزله أكان يجمل بك أن تحمل زادك إلى منزله؟ قلت:
لا، فقال: إن سيدي دعا عباده إلى بيته وأذن لهم في زيارته فحملهم ضعف يقينهم على حمل أزوادهم، وإني استقبحت ذلك فحفظت الأدب معه أفتراه يضيعني؟ فقلت: حاشا وكلا، ثم غاب عن بصري فلم أره إلا بمكة، فلما رآني قال: أنت أيها الشيخ بعد على ذلك الضعف من اليقين.
توبة
قال الشاعر: يا عالم الأسرار علم اليقين/ يا كاشف الضر عن البائسين/ يا قابل الأعذار فئنا إلى/ ظلك فأقبل توبة التائبين.
وقال آخر: إذا أنت لم يصحبك زاد من التقى/ ولاقيت بعد الموت من قد تزودا/ ندمت على أن لا تكون كمثله/ وأنك لم ترصد كما كان أرصدا.
وقيل: كن كيف شئت فإن الله ذو كرم/ وانفِ الهموم فما في الأمر من باسِ/ إلا اثنتين فلا تقربهما أبداً/ الشرك بالله والاضرار بالناسِ.
الدنيا مفتاح الرغبة
قال الحافظ أبو الحسن طاهر المعافري الأندلسي: عمدة الدين عندنا كلمات/ أربع من كلام خير البريةْ/ اتقِ الشبهات وازهد ودع ما/ ليس يعنيك واعملن بنيةْ.
ويقال: الزهادة في الدنيا مفتاح الرغبة في الآخرة، ومن زهد في الدنيا هانت عليه المصيبات، والزهد في الدنيا ألا تأسى على ما فات منها ولا تفرح بما أتاك منها.
وقيل: ازهد في الدنيا يحبك الله، وأزهد فيما عند الناس يحبك الناس.
وقيل: من كان لا يفرح بزيادته ولا يحزن بنقصه فهو زاهد.
الذنب الوحيد
قال محمود الوراق: يا غافلاً ترنو بعيني راقدِ/ ومشاهداً للأمرِ غيرَ مشاهدِ/ تصل الذنوب إلى الذنوب وترتجي/ درك الجنان بها وفوزَ العابدِ/ ونسيت أن الله أخرج آدماً/ منها إلى الدنيا بذنبٍ واحدِ.
ويقال: لعمرك ما يدري الفتىَ كيف يتقي/ إذا هو لم يجعل له الله واقياً.
قال حاتم بن علوان الأصم، وكنيته أبو عبدالرحمن من أكابر مشايخ خراسان: الزم خدمة مولاك تأتك الدنيا راغمة، والآخرة راغبة، وقال: من ادعى ثلاثاً بغير ثلاث فهو كاذب، من ادعى حب الله تعالى من غير ورع عن محارمه فهو كذاب، ومن ادعى محبة النبي صلى الله عليه وسلم من غير محبة الفقر فهو كذاب.
ومن ادعى حب الجنة من غير إنفاق ماله فهو كذاب. وسأله رجل: علام بنيت أمرك في التوكل على الله عز وجل؟ قال: على أربع خصال.. علمت أن رزقي لا يأكله غيري فاطمأنت به نفسي، وعلمت أن عملي لا يعمله غيري فأنا مشغول به، وعلمت أن الموت يأتيني بغتة فأنا أبادره (بمعنى أسرع إليه)، وعلمت أني لا أخلو من عين الله عز وجل حيث كنت فأنا استحي منه.
باب العمل وباب الفترة
قيل: إذا انقطع العبد إلى الله تعالى بالكلية، فأول ما يفيده الاستغناء به عن الناس، وصحبة الفساق داء ودواؤها مفارقتهم، واذا سكن الخوف في القلب لا ينطق اللسان بما لا يعنيه.
وقيل: اذا أراد الله بعبد خيراً فتح له باب العمل، وأغلق عليه باب الفترة (الضعف) والكسل.
قال أحدهم: سألت معروفاً عن الطائفين لله بأي شيء قدروا على الطاعات لله عز وجل؟ قال: بخروج حب الدنيا من قلوبهم، ولو كانت في قلوبهم لما صحت لهم سجدة.
قال الشاعر: الماء يغسل ما بالثوب من درن/ وليس يغسل قلب المذنب الماء. (الدرن بمعنى الوسخ).
قميص معروف الكرخي
ويروى أن معروفاً كان قاعداً يوماً على الدجلة ببغداد فمر به صبيان في زورق يضربان بالملاهي ويشربان، فقال له أصحابه: أما ترى هؤلاء يعصيان الله تعالى على هذا الماء؟ فأدع عليهما، فرفع يده إلى السماء وقال: إلهي وسيدي كما فرحتهم في الدنيا أسألك أن تفرحهم في الآخرة. فقال له أصحابه: إنما سألناك أن تدعو عليهم، ولم نقل لك ادعُ لهم. فقال: إذا فرحهم في الآخرة تاب عليهم في الدنيا، ولم يضركم ذلك.
ومعروف هو معروف الكرخي أحد علماء زمانه، وقيل إنه قال في مرضه: إذا مت فتصدقوا بقميصي هذا فإني أحب أن أخرج من الدنيا عرياناً كما دخلتها عرياناً.
موت التقي
قال الشاعر: موت التقي حياة لا نفاد لها/ قد مات قوم وهم في الناس أحياء.
وقال الإمام أحمد: إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل/ خلوت ولكني عليّ رقيبُ/ ولا تحسبن الله يغفل ساعة/ ولا أن ما يخفى عليه يغيبُ.
وقيل: اغتنم في الفراغ فضل ركوع/ فعسى أن يكون موتك بغتةً/ كم صحيح قد مات من غيرِ سقمٍ/ ذهبت نفسه الصحيحة فلتةً.
وقال شاعر آخر: فيا ليتني من بعد موتي ومبعثي/ أكون رفاتاً لا عليَّ ولا ليا/ أخاف إلهي ثم أرجو نوالهُ/ ولكن خوفي قاهرٌ لرجائيا/ ولولا رجائي واتكالي على الذي/ توحَّد لي بالصنع كهلاً وناشيا/ لما ساغ لي عذبٌ من الماءِ باردٌ/ ولا طاب لي عيشٌ ولازلت باكيا/ واني جدير أن أخاف وأتقي/ وإن كنتُ لم أشرك بذي العرش ثانيا.
وقال حكيم: يبكي على الذاهب من ماله/ وإنما يبقىَ الذي يذهبُ.
زهد أصحاب الرسول
وهذا هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه الذي فتحت في عصره بلاد الروم وبعض بلاد الفرس، وكثرت الغنائم وفاضت الأموال، ومات ولم يترك درهماً ولا ديناراً. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: مات أبوبكر فما ترك ديناراً ولا درهماً، وكان قد أخذ قبل ذلك ماله، فألقاه في بيت المال. وقيل إن أبا بكر قال: كنت أتاجر بالمال والتمس به، فلما وليتهم شغلوني عن التجارة والطلب فيه.
وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي انتصر على إمبراطورية الفرس وازالها وبلغت الغنائم مبلغاً عظيماً، كان طعامه الملح والزيت والخل، ولباسه الصوف الغليظ.
وقال الحسن: خطب عمر بن الخطاب رضي الله عنه بالناس وهو خليفة وعليه إزار فيه اثنتا عشرة رقعة.
وأما عن عثمان مع غناه وثرائه وكثرة الفتوحات الإسلامية في عصره وازدياد الغنائم، فكان يلبس إزاراً غليظاً وينام على الحصير ويأكل الخل والزيت.
وأما عن علي رضي الله عنه فكان يأكل قاسي الطعام ويلبس غليظ الثياب ويركب الحمار، وأنه أُتي بالفالوذج وهو نوع من الحلوى فوضع بين يديه فقال: إنك طيب الريح، حسن اللون، طيب الطعم، لكني أكره أن أعود نفسي ما لم تعتده.
الصحابي سعيد بن عامر
دخل الصحابي سعيد بن عامر على عمر بن الخطاب وقال له: يا عمر، أوصيك أن تخشى الله في الناس، ولا تخشى الناس في الله، وألا يخالف قولك فعلك، فإن خير القول ما صدقه الفعل، يا عمر، أقم وجهك لمن ولاك الله من بعيد المسلمين وقريبهم، وأحب لهم ما تحب لنفسك وأهل بيتك، واكره لهم ما تكره لنفسك وأهل بيتِك، وخض الغمرات إلى الحق، ولا تخف في الله لومة لائم.
قال عمر: ومن يستطيع ذلك يا سعيد
قال: يستطيعه رجل مثلك فمن ولاهم الله أمر أمة محمد، وليس بينه وبين الله أحد.
عند ذلك دعا عمر بن الخطاب سعيداً إلى مساعدته وقال: يا سعيد إنَّا مولوك على أهل حمص. فقال: يا عمر نشدتك الله ألا تفتنِّي. فغضب عمر وقال: وضعتم هذه الأمانة في عنقي، والله لا أدعك، ثم ولاه على حمص، وقال: ألا نفرض لك رزقاً؟ أجاب: وما أفعل به، فإن عطائي من بيت مال المسلمين يزيد عن حاجتي، ثم مضى إلى حمص.
قال الشاعر: إذا لم يعنك الله فيما تروقُهُ/ فليس لمخلوقٍ إليه سبيلُ/ وإن هو لم ينصرك لم تلقَ ناصراً/ وإن عزَّ أنصارٌ وجلَّ قبيلُ/ وإن هو لم يرشدك في كل مسلكٍ/ ظللتَ ولو أن السَّماكَ دليلُ.(السماك: نجم في السماء).
نزاهة النفس
وقال آخر: نزَّهت نفسي عن يأس وعن أمل/ لما سموت بإيماني على الأملِ.
وقيل: إذا كان عون الله للمرء مسعفاً/ فيأتي له من كل أمر مراده/ وإن لم يكن عون من الله للفتى/ فأول ما يجني عليه اجتهاده.
لا أرى الدهرَ فانيا
قال متمم بن نويرة: فعددتُ أبائي إلى عرقِ الثرى/ فدعوتهم فعلمتُ أن لم يسمعوا / ولقد علمتُ ولا محالة أنني/ للحادثاتِ فهل تراني أجزعُ.
قال الشاعر: ألا ليت شعري هل يرى الناسُ ما أرى/ من الأمرِ أو يبدو لهم ما بدا ليا؟/ بدا ليَ أنَّ الله حق فزادني/ إلى الحق تقوى الله ما كان باديا/ بدا ليَ أنَّ الناس تفنى نفوسهم/ وأموالهم، ولا أرى الدهرَ فانيا.
إنَّ غداً له رزقٌ جديدُ
الزهد في شعر الإمام الشافعي قال: إذا أصبحتُ عندي قوتُ يومِ/ فخلِّ الهمَّ عني يا سعيدُ/ ولا تخطر همومَ غدٍ ببالي/فإنَّ غداً له رزقٌ جديدُ/ أُسَلِّمُ إن أراد الله أمراً/ فأتركُ ما أُريدُ لِمَا يُريدُ. وقال أيضاً: توكلتُ في رزقي على الله خالقي/ وأيقنتُ أنَّ الله لا شكَ رازقي/ وما يَكُ من رزقٍ فليس يفوتني/ ولو كان في قاع البحارِ العوامقِ/ سيأتي به الله العظيمُ بفضلهِ/ ولو لم يكن في اللسانُ بناطقِ/ ففي أيِّ شيءٍ تذهبُ النفس حسرَة/ وقد قَسَمَ الرحمنُ رزقِ الخلائقِ.
وقال الإمام الشافعي رحمه الله أيضاً: سَهِرِتْ أعينٌ ونامت عيونٌ/ في أمورٍ تكونُ أو لا تكونُ/ فادرأ الهم ما استطعت عن النفـ/ سِ فحملانُك الهموم جنونُ/ إن رباً كفاك بالأمسِ ما كان/ سيكفيكَ في غدٍ ما يكونُ.
الأمير الفقير
وفد على أمير المؤمنين عمر بن الخطاب بعض من يثق بهم من أهل حمص فقال لهم: اكتبوا لي أسماء فقرائكم حتى أسد حاجتهم. فرفعوا كتاباً واذا فيه، فلان، وفلان، وسعيد بن عامر فقال: ومن سعيد بن عامر؟ فقالوا: أميرنا. قال: أميركم فقير. قالوا: نعم، والله إنه لتمر عليه الأيام ولا يوقد في بيته نار. فبكى حتى بللت دموعه لحيته، ثم عمد إلى ألف دينار فجعلها في صرة، وقال: اقرأوا عليه السلام وقولوا له:
بعثت إليك أمير المؤمنين بهذا المال لتستعين به. جاء الوفد لسعيد بن عامر بالصرة فنظر إليها فإذا هي دنانير، فجعل يبعدها عنه وهو يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، فهبت زوجته مذعورة وقالت: ما شأنك يا سعيد؟ هل مات أمير المؤمنين؟ قال: بل أعظم من ذلك. هل خسر المسلمون في معركة! قال: بل أعظم من ذلك. قال: دخلت عليَّ الدنيا لتفسد آخرتي وحلت الفتنة في بيتي. قالت له: تخلص منها وهي لا تدري من أمر الأموال شيئاً. فأخذ الدنانير ووزعها على فقراء المسلمين.