بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله
وبركاته
يسعى هذا الكتاب للإجابة عن السؤال: ما
هي ملامح العقلانية العلمية في الفكر العربي الإسلامي منذ مطلع القرن الثاني الهجري
إلى القرن الثامن الهجري؟ وتحديد هذه الفترة الزمنية يأتي من اعتبارها تتضمن أبرز
ما قدمه العقل العربي الإسلامي في القطاعات المختلفة، أي الفلاسفة والعلماء
المسلمين الذي وضعوا مؤلفاتهم أصلاً باللغة العربية.
أهمية هذه الدراسة
كونها تدرس مدى تأثير التراث العلمي العربي الإسلامي على حقول المعرفة المختلفة
للتراث برمته.
و"العلم" هنا هو المفهوم الحديث له، وهو الإدراك الإنساني للواقع
المحسوس عن دليلٍ قاطع وهو بهذا المعنى يختلف عن مفهوم العلم الذي ساد في الحضارة
الإسلامية التي لم تحصره بالواقع المحسوس.
يتضمن مفهوم "العقلانية" حدود عمل
العقل في إطار العالم المادي الفيزيائي، واستناد العقل إلى الحس في إنتاج المعرفة،
والتزام الموضوعية والفصل بين الأنساق الثلاثة: الفلسفة والدين والعلم. وإن كان ذلك
لا يعني بالضرورة تعارضها.
1- العلوم التجريبية:
وقف العلماء العرب
المسلمين على تراث الأمم السابقة، وبخاصة الهند وفارس والسريان واليونان، فنقلوه
بأمانة، ناسبين كل فكرة إلى صاحبها ـ بعكس اليونان الذين استخدموا التراث السابق
دون أن يشيروا إلى مصادرهم ـ ثم قاموا بنقده، فلم يقفوا منه موقف التابع ـ وهناك
شواهد كثيرة على الأمر مثل الرازي مع جالينوس أو ابن الهيثم مع بطليموس ـ ومن ثم
طوروه، وأضافوا إليه، وأسسوا حقولاً جديدة، وعلى الصعيد المنطقي التزموا بمنهج
القياس المنطقي، وطبقوا الاستقراء والتمثيل، وثمة منهجين رئيسين استخدما بصورة
مباشرة في العلوم الرياضية والاختبارية، وهما:
أولاً: المنهج الرياضي:
قدّم
الفراعنة والبابليون إنجازات كثيرة على صعيد العلم الرياضي، وكانت تعتمد التجريب
منهجاً، تسلّم اليونان هذه النتائج فطوروها، ومنذ فيثاغور بدأت تتراكم مجموعة من
النظريات الرياضية المعمّمة في الحساب والهندسة، ثم جاء إقليدس، فأعاد تنظيم المادة
المتراكمة في صورة نسقٍ استنباطي، فهناك ابتداءً: التعريفات ثم البديهيات
فالمصادرات فالنظريات. وبهذا تشكل المنهج الرياضي في صورته الاستنباطية، وتم تطبيقه
في الحساب والهندسة والميكانيكيا.
أحدث اليونان بهذه المنهجية قطيعة تامة مع
مرحلة التجريب البابلية الفرعونية، وقد ورث العلماء العرب المسلمون هذه المنهجية،
ولم يقبلوا بكل النتائج التي قدّمها اليونان فحاولوا تقديم حلولٍ جديدة، كما حدث في
نقد المسلمة الخامسة لاقليدس، واستناداً إليه أسسوا علم الجبر والموسيقى، واستخدموه
بصورة فعّالة في العلم التجريبي وبخاصة في الفلك والفيزياء، وبهذا كانوا امتداداً
للمرحلة الاستنباطية اليونانية.
ثانياً: المنهج التجريبي:
استخدم العلماء
العرب المسلمون هذا المنهج في الكيمياء والفيزياء والفلك والطب، وبصورة ما في
الرياضيات، وقد تنبهوا إلى أنّ مستخدمه، يجب أنْ يكون مؤهلاً على الصعيد النظري.
فهذه المرحلة ضرورية، تمثل شرطاً ضرورياً، وفي ضوئها يتم تحديد المشكلة، ثم تأتي
مرحلة الملاحظة المباشرة للظاهرة، وجمع المعلومات عنها بواسطة الحواس، واستخدام
الآلات والأدوات المختلفة.
ثم يقول العقل استناداً إلى هذه المادة الخام بتكوين
فرض لحل المشكلة، ويجب ألاّ يحكم على هذا الفرض بالصدق أو الكذب قبل امتحانه، ومن
هنا تأتي التجربة للحسم في صدق هذا الفرض أو كذبه، وما يثبت بالتجربة فهو صادق،
ويصبح بمرتبة القاعدة أو المبدأ أو القانون العام وقد طالبوا بتكرار التجارب حتى
يثبت الأمر، وقد صرّحوا بأنّ هناك إمكانية لوقوع الباحث في الخطأ، وبينوا أنّ
أسبابه قد تعود إلى الموضوع أو قصور الأدوات المستخدمة أو الذات الفاعلة، وقد طبقوه
بنجاح في فروع العلم التجريبي.
وصحيح أنّ هذا المنهج له جذور في التراث
السابق، لكن، يعود الفضل إلى العرب المسلمين في إعادة الاعتبار إليه. وقد ركزوا
بصورة خاصة على:
أ- أن التجربة هي المعيار الذي نلجأ إليه لحسم صدق القضايا
العلمية الاختبارية، وقد أطلقوا عليها ألفاظاً مختلفة، مثل: الاعتبار أو الامتحان
عند ابن الهيثم أو التدبير كما هو الحال عند جابر بن حيان، ولم يكتف العلماء العرب
المسلمون بالتجربة الواحدة، وإنما ذهبوا إلى ضرورة التكرار بغية المزيد من التحوط
في الحكم، وما أثبته التجربة عندهم يرتقي إلى مستوى القانون العام وفي علم الفلك
لعبت الملاحظة العلمية دوراً حاسماً في غياب إمكانية التجارب الدقيقة، ودعموا ذلك
بأجهزة كثيرة تحسن أدوات الملاحظة.
ب- استخدم العلماء العرب المسلمون الأدوات
والآلات المختلفة في تجاربهم وكانوا حريصين على تقديم وصف نظري لها، ولطرق عملها،
وتطويرها، باستمرار ومن هنا نجد التقدم الكبير الذي شهده علم الفلك بدءاً من مرصد
المأمون إلى مرصد أولوغ بك وهذا ما نجده مع ابن الهيثم في البصريات، أو مع أدوات
الجراحة عند الزهراوي.
جـ- واهتموا في ضوء ذلك بوحدات القياس للأوزان والأطوال
والمساحات، وقد تطورت صناعة الموازين لديهم بصورة ملفتة للنظر، والشاهد على ذلك،
ميزان الحكمة عند الخازن.
د- ولم يكتفوا هؤلاء بهذه القضايا، وإنما طوروا جهازاً
من المفاهيم على مستوى نظرية العلم، وبخاصة قضية الموضوعية، أو العدل بلغة ابن
الهيثم. فقد اعتقدوا أنّ هدفهم هو بلوغ الحقيقة، ومن هنا، فقد دعوا إلى نبذ
الاعتبارات الذاتية والهوى والانفعالات، والتهويمات والطقوس السحرية، وأكدوا ضرورة
عدم الخضوع للسلطة المعرفية السائدة.. ومن هنا جاء نقدهم لبطليموس وإقليدس وأرسطو
وغيرهم، فالحجة في آخر الأمر على البرهان والدليل بغض النظر عن القائل.
تبنى
العلماء العرب المسلمون نظرة إلى العلم مخالفة تماماً للرؤية اليونانية التي كانت
تفصل بين النظر والعمل، فأكدوا على هذا الجانب حتى في الرياضيات، فقد كانت الغايات
العملية هي الهدف الأخير للعلم، وبهذا يكونوا قد تبنوا معظم شروط العقلانية العلمية
المعاصرة، فقد نادوا بالموضوعية في العلم، ودعوا إلى تكامل الحس والعقل في الإنتاج
العلمي.
لم يجد العلماء العرب المسلمون تناقضاً بين العلم وبين الإيمان
بالوجود الإلهي، بل اعتبروا أنّ نتائج العلم تشهد بشكل أو بآخر للحكمة الإلهية،
وهذا لا يقل من عقلانيتهم العلمية إذ ليس من شروط العقلانية العلمية إنكار وجود
الله ورفض الدين، فهؤلاء العلماء بإجماع لم تكن مرجعيتهم دينية [فقط]، بمعنى أنّ
العلم [الإنساني] ليس نتاجاً للفعل الإلهي، وإنما هو فعل للعقل الإنساني، وهو قابل
للتعديل والتطوير، وهناك إمكانية متاحة لتصحيح الخطأ، والافتراضات يمكن التحقق من
صدقها أو كذبها، والحقيقة لا تكتمل أبداً [إلا عند الله]، وإنما هي في نمو مستمر
والنقد الذاتي كما يرى ابن الهيثم وغيره ركن رئيس في تطور المعرفة
العلمية.
والسؤال الذي يطرح بعد هذا: ما مدى تأثير العلوم الاختبارية والرياضية
في الحقول المعرفية المختلفة المعرفية المختلفة؟ فهل أسهمت في تكوين عقلانية علمية
من نوع ما عند بعض المنتسبين إليها.
2- العلوم النقلية:
ومعروفٌ أنّ علم
الكلام والفقه من العلوم النقلية التي تأسست منذ وقت مبكر، وقد سبقت العلوم
الاختبارية من حيث التأسيس والنشأة بفعل عوامل داخلية وخارجية، وخضعت في تطورها
لتأثيرات مختلفة أثرت في مسيرتها. وقد اتجه علماء الكلام المتأخرون إلى المنطق منذ
القرن الخامس الهجري، ومن ثم اجتمعت لديهم النزعتان الكلامية والصورانية. وقد تأثر
الفقهاء بالمنطق لكنْ، ليس بصورة مباشرة كما حدث عند علماء الكلام المتأخرين، إذ لم
ينظروا أبداً إلى المنطق باعتباره منهجية ملائمة لهم على الصعيد الفقهي، ولم يتبنوا
الصورانية، وإن تأثروا في أبحاثهم وخاصة على الصعيد المنهجي بالمنطق.
لم يكن
علماء الكلام والفقه بعيدين عمّا يجري في حقل العلوم الاختبارية، فهناك علماء
وفقهاء اكتفوا بالمراقبة أو الاستفادة بشكل جزئي، وهناك آخرون، بالضرورة، تأثروا
بما يجري فيها، وهناك اختلاف بينهم في درجة التأثر، ولم يكن في هذا الحقل ما يثير
حفيظة علماء الكلام أو الفقهاء ليتخذوا منه موقفاً معادياً، وذلك لسببين:
أولاً:
أنّ الموضوعات التي يبحثها العلم الاختباري ليست قضايا دينية مباشرة، مثل
الإلهيات.
ثانياً: أنّ المعيار الذي يلتزم به العلماء هو التجربة العلمية من حيث
هي الشهادة على صدق ما يقولون، ومن هنا، فهناك إمكانية للتحقق ممّا يقولون.
في
ضوء هذين السببين، تعاطف علماء الكلام والفقهاء مع العلم الاختباري إلى حد كبير،
وذهب بعضهم إلى حد الاشتغال به. مثل الجاحظ وابن الجوزي، فأولهما اشتغل في علم
الحيوان، وثانيهما ألف في الطب عشرة مؤلفات، وتسرّبت اللغة الطبية إلى مؤلفاته
المختلفة. وقد ترك هذا الاشتغال تأثيراً على خطابهما الكلامي والفقهي، ومن ثم تشكلت
عقلانية علمية تتفاوت بينهما، لكنْ، يتفق الاثنان على بعض القضايا والمبادئ،
ومنها:
أولاً: اعتقد الاثنان أنّ المعرفة العلمية ممكنة، وهي نتاج لتعاون كبير
بين العقل والحس، ومن هنا قبلا الاستنباط والاستقراء والتجربة كمناهج للوصول إلى
المعرفة، بغض النظر عن اختلافهما عن الفلاسفة والعلماء في فهم
الاستنباط.
ثانياً: اعتقد الاثنان أنّ العالم محكوم بالقوانين السببية، ومن ثم
يمكن تفسير الظواهر سببياً، وعلى الرغم من أنهما كانا يعتقدان بأنّ العالم نتاج
الفعل الإلهي، إلا أنهما على الصعيد التفسيري كانا يلجأان إلى الأسباب القريبة في
التفسير.
ثالثاً: شكلت الحقيقة بالنسبة للاثنين، هدفاً ينبغي الوصول إليه، ومن
هنا تمسكا بالموضوعية بصورتها الحديثة، فقد نبذا الهوى والميل والعواطف والأساطير
والانفعالات، وكل ما من شأنه أن يعوق الإنسان عن بلوغ الحقيقة، ونظراً إلى التجربة
والخبر الصادق باعتبارهما معيارين يجب اللجوء إليهما، للتحقق من صدق المعرفة أو
كذبها، فهما معياران للحقيقة، فالقضية الصادقة يجب أن يتم التثبت منها بالتجربة أو
الخبر الصادق.
رابعاً: يتفق الاثنان على أنّ العقل لا يمتلك قدرات مطلقة. وأنّه
على الصعيد الميتافيزيقي، يمكن للعقل أن يثبت الوجود الإلهي. وأصرّ ابن الجوزي
بوضوح بالغ على أنّه يجب التوقف بعد ذلك، والاتجاه لإثبات النبوة، ومعرفة تفاصيل
عالم الغيب من خلالها، فلا يمكن التحقق من صدق القضايا على هذا المستوى عقلاً،
والاكتفاء بموقف السلف الذي كان يرى عدم الخوض في تأويل الآيات المتشابهات التي
تتحدث عن هذا العالم، فهي من الغيب الذي لا يعلمه إلا الله. وهذا الحسم الذي نجده
عند ابن الجوزي، ليس موجوداً عند الجاحظ، ومن هنا كان رفضه علم الكلام، فقد اعتبره
محاولة من قبل علماء الدين للتفلسف، وهي مجرد آراء ظنية لا يقين فيها. وهناك بعض
النصوص عند الجاحظ يقترب منها من هذا الموقف كرسالته في المعارف وأرائه في كتاب
"الحيوان".
خامساً: يعتبر الاثنان الدين خطاباً متميزاً مختلفاً عن خطاب العقل
[الإنساني]، فهما نسقان مختلفان في الغايات والأهداف. ولا يجوز إلغاء أحدهما لصالح
الآخر وعلينا أن نفهم العقل هنا بإنتاجه العلم الرياضي والتجريبي، أمّا الإلهيات
بما هي نتاج للعقل فهي موضع خلاف، إذ لا يجوز إقامة تكافؤ منطقي بين قضايا الإلهيات
وقضايا العلوم الاختبارية، فهذه الأخيرة يمكن التحقق من صدقها تجريبياً والحسم
بشأنها، أمّا قضايا الإلهيات فلا تخضع للحس والتجربة، ومن ثم هي آراء، وقضايا ظنية.
وقصارى ما يمكن إثباته على هذا الصعيد مجرد الوجود الإلهي كما يرى ابن الجوزي. أمّا
ما يتعلق بالصفات والأفعال، والقضايا الميتافيزيقية الباقية، فيجب الرجوع فيها إلى
خطاب الأنبياء، الذي ثبت صدقه بالمعجزات.
3- علم الأصول:
كان الإمام
الشاطبي، المتوفى في نهاية القرن الثامن الهجري، معاصراً لابن خلدون، وقد وفّر له
هذا الأمر ملاحقة التطور الذي حدث في علم أصول الفقه من القرن الثالث إلى القرن
الثامن الهجريين، وكان من الطبيعي أن يتأثر علماء الأصول إيجاباً أو سلباً بحركة
العلوم الاختبارية، بحكم أنهم كانوا مضطرين لتحديد موقفهم من العقلانية، كما يمكن
أن تظهر في القياس والإجماع، وبخاصة عند أصحاب التعليل، فالتحقق من العلة قادهم إلى
العلم الاختباري وموضع القياس جعلهم يتخذون موقفاً من المنطق. وبدءاً من الغزالي
تسرّب المنطق إلى هذا العلم، وباتت المؤلفات الأصولية تبدأ بمقدمة منطقية.
رفض
الشاطبي إدخال المنطق الصوري إلى علم أُصول الفقه، وسجّل اعتراضات جوهرية، نجدها
عند ابن تيمية وابن خلدون وغيرهما، ومن ثم لم يكتف بالرفض وإنما حشد الانتقادات
الكثيرة ضد النزعة الصورانية، وهذا الموقف جاء نتيجة حتمية لموقف معرفي آخر هو
الاعتقاد بأنّ للعقل حدوداً لا يجوز له أن يتجاوزها، وهي حدود هذا العالم، بمعنى
أننا لان ستطيع أنْ نحصل على معرفة يقينية إلا في حدود هذا العالم، أمّا عالم الغيب
أو الميتافيزيقا، فلا يمكن الوصول إلى قضايا يقينية بشأنه، ومن هنا كان إعلانه
بوضوح حظر النشاط الميتافيزيقي على العقل [والاكتفاء بالنقل في هذا المجال]، ثم ذهب
الشاطبي مسافةً أبعد من ذلك، فتبنى مبدأ الفصل بين الأنساق المعرفية، ورفض محاولة
الاحتواء والغزو بين هذه الأنساق، فلا يجوز مثلاً تأويل الخطاب الديني باسم العلم
والفلسفة أو تأويل العلم باسم الدين والفلسفة أو تأويل الفلسفة باسم الدين والعلم.
[لكن هذا الفصل فصلٌ في المرجعيات دون الموضوعات].
وتتجلى العقلانية العلمية
عنده بصورتها الكبيرة، في محاولة استرجاع القوانين العامة التي تحكم الشرع عن طريق
الاستقراء أي مقاصد الشريعة .
لا مجال أمامنا سوى الإقرار بتكون العقلانية
العلمية عند الشاطبي، لكن لا يعني هذا أن كل علماء أصول الفقه مثله، ولا نجد هذا
الوضوح في خطاب المعري، وذلك لأنّ الشاطبي كان متأخراً بينما المعري عاش في القرنين
الثالثو الرابع الهجريين، وعلى الرغم من ذلك نجد هناك المبادئ نفسها تقريباً، وإن
كانت ليست معالجة بصورة كاملة عنده.
4- الفلسفة وعلم
الكلام:
هل تكون لدى الفلاسفة المسلمين عقلانية علمية من نوع ما، وللإجابة على
هذا السؤال نقدم نموذجين من الفلاسفة هما:
أولاً: الفلاسفة الذين تبنوا
العقلانية الصورية، فهؤلاء اعتقدوا بإجماع أنّ المنطق منهج مناسب للفيلسوف، وهو علم
دقيق محايد يرتبط بقضايا الفكر، وقواعده صحيحة، ويمكن أنْ يساعدنا في ضبط تصوراتنا
الفلسفية، وذهب بعضهم إلى ضرورة استخدامه أيضاً في العلوم الاختبارية، بصورة واضحة،
إذ يعتبر من المسلمات الرئيسة في العلم، ومناهجه لا غنى للعالم أو الفيلسوف عنها،
ولم يتوقف الأمر عند هذه الحدود، بل تجاوز بعضهم ذلك إلى حد الاعتقاد أنه كافٍ
بذاته على صعيد الفلسفة.
ومعروف أنّ المنطق الأرسطي يتضمن قضايا ميتافيزيقية
مضمرة فضلاً على أنّه بالقوة يدفع إلى التقليد الميتافيزيقي، فهو ابتداء مبني على
نزعة واقعية في الكليات، وهذا ما لم يتنبه إليه هؤلاء الفلاسفة، فقد تصوروا أنّ
نظرة أرسطية للكليات سليمة، فهو يُّقر أنها موجودة على مستوى الأذهان، لكنّ لها
وجوداً بالقوة على المستوى الخارجي، وهذا الحل لم يخرجنا من النزعة الواقعية
للكليات، فضلاً عن أنّ عوامل الإضافة والتركيب على مستوى العقل تدفع بهذه الكليات
إلى مسافات بعيدة يصعب التحكم فيها، ومن ثم تساهم في بناء عوالم غيبية مختلفة، وهي
بشكل أو بآخر مسؤولة عن نظرية الفيض بأشكالها كلها، ومقولة العقل الفعّال، ونظرية
عشق العالم للإله، وحياة النجوم... الخ.
كان هؤلاء يتصورون أنّ ما وصلوا
إليه صحيح من الناحية الاستنباطية، لكن إذا اعتمدنا هذا المعيار فقط، فكل القضايا
الميتافيزيقية تتساوى في الصدق والكذب، إذ لا معيار يمكن أنّ يحسم بينهما، ومن هنا
كانت نظرة ابن حزم النافذة بضرورة الالتزام بإمكانية رد هذه الأفكار إلى قضايا
حسيّة أو عقلية بسيطة أو إلى دليل بواسطة التجربة، لكن معظم هؤلاء الفلاسفة لم
يقبلوا بوجهة النظر هذه، رغم أنهم كانوا يعتقدون بإجماع بأنّ قانون السببية يحكم
العالم.
لكنّ المشكلة هي في طريقة البرهنة على السبب، ومعظمهم كانوا يلجأون هنا
إلى تقسيمات تحكمية لا مسوغ لها، كما هو الحال في مسألة الواجب والممكن، وبهذا أصبح
عالم الأفكار لديهم مطابقاً للعالم الخارجي، وتحوّل الكلي من تعميم منهجي لغايات
الفهم إلى كلي مطلق هو الأصل، وأصبحت الماهية المنجزة قانوناً صارماً خارج الزمان،
وعلى الواقع أنْ يتطابق معها، مما يشكل عقبات رئيسة أمام نمو المعرفة العلمية. وقد
ارتبط بهذه النزعة موقف محدد تجاه العقل، فهو يمتلك صلاحيات مطلقة في البحث في
الشؤون الميتافيزيقية!
ثانياً: يختلف الفلاسفة الذين ينتمون إلى هذا
الأنموذج عن الفلاسفة السابقين، فهؤلاء قبلوا المنطق كمنهجية للفيلسوف، لكنهم لم
يقبلوا النتائج التي أُنجزت فلسفياً من الفلاسفة السابقين، بل يعتقدون أنهم لم
يلتزموا كثيراً بالمبادئ المنطقية وخالفوها، التأويل أحياناً وقد نبّه ابن رشد
تحديداً إلى أنهم انطلقوا من عالم ما بعد الطبيعة إلى الطبيعة، أي من عالم الأفكار
لبناء عالم الوقائع، وهذا ليس صحيحاً، فالأصل أن تكون مبنية استناداً إلى عالم
الوقائع، لكن قبل ابن باجة وابن رشد المنطق دون القيام بأية عملية تقويمية له،
اقتناعاً منهم بصدق الصورة الأرسطية، ولم يأخذ الاثنان بمحاولة ابن حزم الذي أجرى
تعديلاً جريئاً له في ضوء تبنيه للنظرة الإسمية، ومن ثم على مستوى نظرية الحد لم
يعد ابن حزم يسعى للبحث عن الماهيات، والكليات عنده أسماء لا غير، وتميز هؤلاء
الفلاسفة بمسألتين، فرقتا بينهم وبين السابقين:ـ
أولاً: لم يمنحوا العقل صلاحيات
مطلقة للبحث في الشؤون الميتافيزيقية وفرض ابن حزم الحظر المطلق عليه، أمّا ابن
باجة وابن رشد فقبلا فيما يبدو تحديداً جزئياً له، إذ في ضوء هذا نفسر رفضهما
لنظرية الفيض والعقول.
ثانياً: تبنى هؤلاء الفلاسفة مبدأ الفصل بين الدين
والعقل، فهما نسقان مختلفان من حيث المبدأ، ولم يقبلوا بتأويل الفارابي أو الإلغاء
السينوي المشرقي، واختلفوا في تصوير طبيعة العلاقة التي يجب أن تقوم بينهما بعد
الفصل، فقد أعطى ابن حزم دوراً محدداً للعقل في الخطاب الشرعي وتجاوز ابن رشد
الحدود عندما منح العقل صلاحيات مطلقة في تأويل النص باعتبار أنّ أهل البرهان هم
الأقدر على فهمه، وقد رفض الموقف الرشدي من اللاحقين مثل الشاطبي وابن
تيمية.
يعتبر هذان المبدءان من المبادئ الرئيسة في العقلانية العلمية، وهو
الذي دفعنا إلى تمييزهم عن السابقين فهم حقاً تبنوا العقلانية الصورية، لكنهم رفضوا
التأويل الفلسفي الذي قدمه السابقون، وتجاوز ابن حزم الآخرين بصورة خاصة، ويمكن
اعتباره نموذجاً لوحده على العقلانية العلمية بين الفلاسفة، وذلك بتبنيه عدداً من
القضايا الرئيسة فيها، وهذه القضايا الحزمية هي:
أولاً: قَبِلَ ابن حزم مكتسبات
العقلانية الصورانية، وبخاصة المنطق ومبدأ السببية، وهو يقبل هذا الأخير بصورة
تامة، فكل التفسيرات عنده سببية، أمّا المنطق فهناك ضرورة في إعادة بناءه من جديد،
في ضوء النظرة الاسمية للكليات، ويقبل القياس من حيث هو آلية للبرهان.
ثانياً:
الفصلُ بين عالم الغيب وعالم الإنسان، والإنسان لا يستطيع معرفة قضايا عالم الغيب،
وإنما مجاله الخاص به هو عالم الإنسان، لذلك نادى بحظر النشاط الميتافيزيقي على
العقل بصورة تامة.
ثالثاً: المعرفة ممكنة، لكن يجب أنْ يدعمها دليل، بمعنى أنّ
القضية الصادقة لابد أن يدعمها على الأقل دليل واحد من الأدلة العلمية الأربعة
وهي:
1- أوائل الحس. 2- أوائل العقل. 3- التجربة. 4- الخبر الصادق.
وكلُّ
قضية مركبة يجب أن يكون بإمكاننا تحليلها إلى قضايا بسيطة مدعومة بهذه الأدلة، فإذا
لم يتوافر هذا الشرط، فالقضية كاذبة.
رابعاً: الفصل بين الدين والعقل، ولا يجوز
إلغاء أحد الطرفين لمصلحة الآخر، فهما نسقان مختلفان، ودور العقل في الخطاب الديني
لا يتعدى المساندة والفهم والتمييز.
خامساً: رفض كل القضايا الأسطورية التي لا
دليل عليها مثل عقول النجوم، وأفعال السحر.
تصور هذه القضايا الصورة الأولى
للعقلانية العلمية في الفلسفة الإسلامية، ونحن لا ندعي كمالها، وإنما ستتطور، عند
اللاحقين وهي تشهد بأنّ حقل الفلسفة قد تأثر بالعلوم الاختبارية والعقلانية العلمية
عند ابن حزم هي نتاج مباشر لهذا التأثير.
5- المعرفة العلمية:
رفض ابن
تيمية وابن خلدون الفلسفة المستندة إلى المنطق الصوري كمنهجية للفيلسوف، وهذا الرفض
هو موقف فلسفي وينبع من فلسفة مارسها الاثنان، وإن لم يعطيا لها اسماً، ووجدنا أنّ
التسمية المناسبة لهذه الفلسفة هي "العقلانية العلمية".
فكلاهما نادى بأنّ
الأساس الأخير للمعرفة هو العقل، لكنّ هذا العقل ليس العقل الذي نجده في العقلانية
الكلامية أو العقلانية الصورية، وإنما العقلُ كما نجده في المعرفة العلمية، ومن ثم
هي فلسفة تتحدد بعلاقاتها بالعلم ابتداءً، فهي تقبل قضايا العلم الصادقة،
والمنهجيّة المتبعة فيه، وتستثمرها في حقول مختلفة باعتبارها المنهجية الأمثل
للبحث، وعلى الصعيد المنطقي تلتزمُ بمنطق لا يخالف مبادئ المعرفة العلمية، وتلتزم
بمبادئ ستة رئيسية، تكون البنية العميقة لهذا الخطاب، وهي:
أولاً: مبدأ مصادر
المعرفة الأربعة:
ذهب الاثنان إلى أنّ المعرفة هي نتاج تكامل بين الحس والعقل
وما يبنى عليها مثل التجربة والأخبار الصادقة، وهذه هي مصارد المعرفة العلمية،
ومصادر كل معرفة صادقة ممكنة، وبهذا قال الجاحظ، وابن الجوزي، والشاطبي والمعري
وابن حزم وغيرهم كثيرون.
ثانياً: مبدأ حظر النشاط الميتافيزيقي على
العقل:
يذهب الاثنان إلى أنّ موضوع المعرفة [الإنسانية] هو العالم المادي الذي
نصل إليه بالحس والعقل والتجارب، وينبني على هذا أنّ مجال العقل الذي تظهر فيه
فعاليته هو هذا العالم. فالمعرفة ممكنة للإنسان لهذا العالم، ويمكن أنْ نصل إلى
قضايا صادقة بشأنه. وينبني على هذه المسألة قضيتان:
أ- هناك عالمان على الصعيد
الأنطولوجي، هما: عالم السماء [الغيب] وعالم الإنسان.
ب- حدود مجال العقل
وفعاليته هي عالم الإنسان، أمّا عالم السماء فلا يستطيع العقل أنْ يقدم معرفة
يقينية بشأنه، لأنه يقع خارج مجال فعاليته.
ومن ثم نادى الاثنان بضرورة الفصل
المنهجي بين العالمين، وتقييد مجال العقل في هذا العالم، وحظر النشاط الميتافيزيقي
عليه، وبهذا نادى ابن حزم وابن خلدون، والشاطبي والمعري.
ثالثاً: مبدأ ضرورة
الموضوعية في المعرفة:
ذهب الاثنان إلى أنّ عالم الإنسان يخضع لمبدأ السببية،
فهناك أسباب ومسببات على الصعيد الأنطولوجي، وعلينا الوصول إلى التفسيرات السببية
على الصعيد المعرفي. ويجب من ثم أن يصل الآخرون إلى النتائج ذاتها، لأنّ المعرفة
بطبيعتها غير ذاتية، والمعرفة العلمية بالذات تتسم بهذه السمة فهناك إمكانيةٌ
للتحقق من نتائجها من قبل آخرين، أمّا المعرفة الذاتية التي تبقى حبيسة ذات العارف،
فلا تستحق أن تسمى معرفة، وهذه هي الموضوعية في المعرفة.
رابعاً: مبدأ الفصل بين
عالم السماء والإنسان:
يذهب الاثنان إلى أنّ عالم السماء لا يمكن معرفة تفاصيله
بالعقل، وقصارى ما يمكن الوصول إليه هو إثبات الوجود الإلهي، أمّا ماهية هذا الوجود
وصفاته فلا يمكن معرفتها بالعقل، وهي عموماً موضوع الدين. وبهذا قال الشاطبي وابن
الجوزي.
خامساً: مبدأ الفصل بين الأنساق الثلاثة:
نادى الاثنان بضرورة
التمييز بين أنساق ثلاثة: الفلسفة والعلم والدين فهناك اختلافات بين هذه الأنساق في
الموضوعات والوسائل والغايات، ويجب إلا يتم إلغاء أحدِها لصالح الاثنين الآخرين.
بمعنى أنّه لا يجوز تحميل الخطاب الديني تأويلات فلسفية لا تمت له بصلة أو نقوم
بتأويله علمياً، إذ ليس الدين من حيث المبدأ علماً [بالمعنى الوضعي] أو فلسفة، وهذا
يعني بصورة أخرى الاعتراف بشرعية الأنساق الثلاثة وهذا ما نجده عند ابن حزم وابن
رشد وابن الجوزي والشاطبي.
سادساً: مبدأ الالتزام بالروح العلمية:
يذهب
الاثنان إلى أنّ هدف المعرفة من حيث المبدأ بلوغ الحقيقة بغض النظر عن الأهواء
والانفعالات الذاتية. ومن ثم دعا الاثنان إلى ضرورة نبذ الاعتبارات الأسطورية
والسلطوية والمصالح الذاتية، والأهواء والخرافات وكل ما من شأنه أنْ يقف حائلاً دون
بلوغ الحقيقة.
والعمدة في آخر المطاق على الدليل، أمّا التصوف فقد قبله الاثنان
شريطة أن لا يخالف ما هو معلوم بالتجربة أو بنصوص الدين المقدسة [الثابتة]، ويجب أن
يبقى تجربة ذاتية، تتعلق بالعابد نفسه، وهذه التجربة هناك صعوبة في التعبير عنها
لغوياً ومن ثم تحويلها إلى معرفة ممكنة، وبهذا قال ابن الجوزي أيضاً.
وقف ابن
تيمية وابن خلدون على العلوم الاختبارية في عصرهما، وأدركا بوضوح بالغ طبيعة
المعرفة العلمية، من حيث هي نتاج إنساني، ليس مصدره العقل الفعال أو الله [تعالى]
أو أية قوة كونية أخرى. وهي ليست ثابتة بصورة مطلقة، وإنما قابلة للتعديل والتطوير،
في ضوء تحسن أدواتنا، ووسائلنا وقيامها ابتداءً على أوليات الحس والعقل، والتجارب
المستندة إليها. وأنّ المعيار الحاسم في قبول القضية العلمية هو التجربة، فهي
القادرة على التحقق من صدق فروضنا، فما ثبت بالتجربة يجب قبوله والاعتراف به، وما
عدا ذلك يبقى في دائرة الفرض الذي لم يتحقق، ومن ثم لا نستطيع الحكم عليه بالصدق،
وبهذا تقدمت المعرفة العلمية، وحصل الاتفاق بين المشتغلين فيها، وفي ضوء هذا الوعي
حاكم الاثنان الخطاب الفلسفي السائد، فقضاياه لا يمكن أنْ نتحقق من صدقها مثل قضايا
العلم الاختباري [السبيل الوحيد لها هو النقل]، فهم قد حكموا معايير المعرفة
العلمية في نقد الخطاب الفلسفي، ومن ثم قادهم هذا إلى نقدِ المنهج المنطقي باعتباره
الأداة التي أَنتجت المعرفة الفلسفية.
انطلق الاثنان من التسليم بحقل العلوم
الاختبارية والدفاع عنه، ومن داخله قام الاثنان بنقد الخطاب الفلسفي ومنهجه،
فالخطاب الفلسفي يجبُ أنْ لا يُناقض المعرفة العلمية، وعليه أنْ يتبنى معاييرها.
وفي ضوء هذا النقد تبنى الاثنان فلسفةً تلتزم بقواعد العلم وتنطلق منه، ومن هنا،
كان المنطق الاسمي امتداداً للمعرفة العلمية، فالتسمية والتدليل هما الامتداد
الطبيعي للمنهجية العلمية، فهما يُقدمان لنا معرفةً نسبيةً حول تجاربنا عن عادات
الموجود بلغة ابن تيمية. والعلمُ قد حققَّ إنجازاته بفضل هذه المنهجية التي تلتزمُ
بالعالَمِ المُعطى كحقلٍ للمعرفة العلمية، فهو لا يحدثنا عن عالمٍ مفارق، ولا
يدَّعي أنَّ بإمكانه معرفة تفاصيل هذا العالم، ومن هنا علينا الالتزام بهذا على
الصعيد الفلسفي، بمعنى أنَّ علينا أنْ نلتزمَ بالعالم كموضوع للمعرفة الفلسفية،
وأنْ نُسلمَ بحدود العقل في إطار حدو هذا العالم، وفرضُ حظر النشاط الميتافيزيقي
على العقل، وبهذا كانت الفلسفةُ التي تبناها الاثنان من إنجاز العقل النظري أو
الفلسفي، والتأسيس الفلسفي بهذا النهج قد تم انطلاقاً من معطيات العقل
النظري.
لم يكتفِ الاثنان بالنتيجة السابقة، وإنما انطلقا بعد ذلك إلى
معالجة الخطاب الديني، وبالطبع كان من الممكن لهما أنْ يتوقفا عند حدود إنتاج العقل
الفلسفي، ومتابعة النشاط الفلسفي على هذا المستوى. لكنْ هناك خطابٌ موجود وهو
الدين، وبالنسبة لهما هذه الفلسفة لا تناقض الدين أساساً، بمعنى إذا انطلقنا من
داخل الخطاب الديني، فهذه الفلسفة لا تناقضه، ومن ثم لا مشكلة على هذا الصعيد،
وإنما المشكلة هي: هل يخالف الدين قواعد العقل الفلسفي الذي يقوم على التسمية
والدليل والبرهان،، أي إذا انطلقنا من داخل حقل العقل الفلسفي إلى
الدين؟
إذا حكمنَّا معايير العقل النظري في الخطاب الديني فلا مهرب من هذا
التناقض، فعالم الغيب الذي يتحدث عنه الدين، لا يمكن أنْ يختبر على صعيد العقل
الفلسفي [الوضعي]، ومن ثم أخذَ الاثنان بضرورة الفصل [أو التمييز] بين الخطابين،
ومن ثم الاعتراف بشرعيتهما، وضرورة أنْ لا تحاكم القضية إلاّ في ضورة معايير النسق
الذي تنتمي إليه. ومن ثم الإيمانُ بالغيب قضيةٌ صادقةٌ على صعيد العقل النقلي، ولا
يجوز تطبيق معايير العقل الفلسفي [الوضعي] عليها.
لم يُقبلْ الخطاب الديني
اعتباطاً، فقد قام الاثنان بتسويغه عقلياً، أمّا ابن خلدون فقد لجأ إلى نظرية
الاتصال، وأمَّا ابن تيمية فقد دعا إلى ضرورة دراسة ظاهرة النبوة ابتداءً، فالنبوة
ليست محصورة بالنبي محمد (r)، وإنما هي ظاهرة موجودة عند آخرين [قبله]، ومن ثم يمكن
دراسة هذه الظاهرة درساً علمياً، والنبوة تثبت بالمعجزة، وهناك شهادات لا يمكن
الطعن فيها على وجود هذه المعجزات، ومن ثم لا مهرب لنا من قبولها. فإذا سلّمنا
بذلك، فتلك هي بداية شرعية الخطاب الديني الذي قبل على أساسه. فإذا سلمنا بشرعية
هذا الخطاب فعلينا فيما بعد أنْ لا نحاكمه إلاّ في ضوء المعايير التي يقدمها، تمثل
الصورة السابقة، مبادئ العقلانية العلمية الستة التي قبلها الاثنان، وهذه الصورة هي
الأكمل عبر ستة قرون، وصحيح أنّ بعض هذه المبادئ وجد عند السابقين، لكنها لم توجد
بصورة مكتملة عند أحدهم، ولم تعالج بصورة كافية.
لا يعني هذا بالطبع أنّ هذه
المبادئ هي كل مبادئ العقلانية العلمية، الموجودة لدينا في الوقت الحاضر، وإنما لا
شك في أنهم قد تقدموا في هذا المجال وقطعوا فيه أشواطاً طويلة جداً ولم تقف جهودهما
عند حدود إدراك مبادئ العقلانية العلمية، وإنما انخرط الاثنان في الممارسة العلمية
بصورة مباشرة، فاشتغل ابن تيمية في إعادة بناء علم المنطق على أسس جديدة، أمّا ابن
خلدون فأعاد تأسيس علم التاريخ، واكتشف علماً جديداً هو علم العمران.
كانت
القضية الرئيسة التي انطلق منها ابن تيمية في إصلاح المنطق هي إعادة النظر في
الكليات، فاستناداً إلى أفلاطون يوجد للكليات وجود موضوعي مفارق للذات. وقد تنبه
أرسطو إلى هذا الأمر، وقام بنقده، لكنه أعطى الكلي أيضاً وجوداً واقعياً وإن كان
مختلفاً عن الوجود الأفلاطوني، فهو يتحدث عن وجود بالقوة للكلي، ويجعله مكافئاً
للصورة، وهي محايثة للمادة، وهذه الحلول الأرسطية لم تخرج عن دائرة التصور الواقعي
للكلي، وقد تبنى الفلاسفة الإسلاميون التصور الأرسطي من الكندي حتى ابن رشد
باستثناء ابن حزم. الذي كان له موقف مختلف عنهم. وعلى الرغم من الانتقادات التي
وجهت للموقف الأرسطي من الكلي، إلا أنّ الفلاسفة الإسلاميين اعتقدوا بصواب الموقف
الأرسطي، وقد رفض ابن تيمية وابن خلدون هذا الأمر تماماً، فالكليات لا وجود لها إلا
في الذهن، والكلي الذي ليس له أصل في عالم الحس يجب رفضه، والكائنات الميتافيزيقية
التي وصل إليها الفلاسفة، هي كليات لا أساس لها في عالم الحس، ومن ثم يجب رفضها
لأنه ليست من وظيفة العقل إدارتها. وقد بُنيت نظرية المعرفة الأرسطية على أساس
موقفه من الكلي، فالمعرفة تصورات نصل إليها بالتعريف بالحد، والذي يصور ماهية الشيء
المعرّف، وتصديقات نصل إليها بالقياس.
وقد أنكر ابن تيمية ذلك تماماً، فالحد
لا يصور ماهية الشيء وإنما وظيفته اسمية تماماً، بمعنى أنه مثل الاسم وظيفته
التمييز بين الأشياء، والماهية تقوم على التمييز بين الصفات الذاتية والصفات
العرضية للشيء، وهذا التقسيم مفتعل فلا يوجد معيار حاسم على هذا المستوى. أمّا
القياس، فقد شدّد ابن تيمية على أنّ ما نصل إليه من معرفة بواسطته يمكن أن نصل إليه
دون ذلك، والشروط الموضوعية له يجب إعادة النظر فيها، وقد طوّر ابن تيمية هذا الأمر
إلى نظرية الاستلزام. وقد تبنى ابن خلدون القضايا الرئيسة التي أثارها ابن تيمية،
فهو لم يكن منشغلاً في إعادة بناء العقل النظري مثل ابن تيمية، وإنما كان مشغولاً
في إعادة بناء العقل العملي استناداً إلى البنية النظرية ذاتها.
أمّا ابن
خلدون، فقد أعاد اعتبار لعلم التاريخ، فبعد أنْ كان ملحقاً بالعلوم النقلية، قام
بإرجاعه إلى حظيرة العلوم العقلية، وانشغل في المعاير التي يجب اللجوء إليها للتحقق
من صدق الواقعة التاريخية، ولم يكتف بموازين الجرح والتعديل. وإنما بين أنّ المهمة
الأولى يجب أن تكون مطابقة الخبر للقوانين التي تحكم الحياة الاجتماعية، والعلم
الذي يبحث في هذه القوانين هو علم العمران، لكنّ هذا العلم لم يقم بتأسيسه
السابقون، ومن ثم ندب نفسه أيضاً لإنجاز هذا الأمر، ومن هنا، أسس ابن خلدون علم
العمران، ليكون مساعداً لعلم التاريخ، ومن الجدير بالذكر أنّ القوانين الاجتماعية
يمكن الوصول إليها عبر الملاحظات والتجارب. ويمكن النظر إلى "المقدمة" باعتبارها
تمثل الممارسة العلمية الحقيقية لابن خلدون. ونحن لا ندعي اكتمال هذه التجربة، ولكن
ما يهمنا هو الروح العلمية التي تحلى بها والعقلانية العلمية التي وجهت خطابه في
هذا المجال.
لا شك أنّ ابن تيمية وابن خلدون قد تأثرا بالعلوم الاختبارية،
وأنّ العقلانية العلمية التي حكمت خطابهما جاءت بفعل هذا التأثير بصورة مباشرة أو
غير مباشرة. وهي نتاج تطور مستمر خلال القرون السبعة السابقة. وهي تمثل الصيغة
الأكمل في تراثنا