عرف العالم مؤخرا - عن طريق وسائل الإعلام مرضًا خبيثًا مخيفًا ألقى الرُّعب في قلوب الملايين من البشر، إنَّه الإيدز مختصرًا من العبارة الأجنبية: (
cuqrwsd - Imune -Defcieney - Syndrume).
وتعني نقص المناعة المُكتسبة، وهو يهاجم الخلايا اللمفاوية في الإنسان، (وهي الخلايا المسؤولة عن المناعة)، فإذا ضعفت ذهبتِ المناعة وتعرض الجسم للموت بمجرد مرض بسيط؛ كرشح مثلا، أو جرح، أو أي ارتكاس عضوي آخر.
وقد ظهرتْ بوادره الأولى في العالم الإباحي المريض، إذ ظهر أوَّل ما ظهر في الولايات المتحدة الأمريكيَّة، وذلك عام 1978 - 1979م.
وتركَّزتِ الإصابات في نيويورك ثم في "سان فرنسيسكو"، و"لوس أنجلوس"، ثم في "فرنسا" أم الحريات - كما يدعون - وذلك عام 1982 - 1983م.
ثم كشفت الإصابات في "هايتي"، و"أواسط إفريقيا"، وقد أصاب بشكل خاص الجنوسيين (اللوطيين)، وانتشر عنْ طريقهم إلى غيْرِهم وباءً عامًّا ألقى الخوف في قلوب شعوب أمريكا وأوروبا، وأواسط إفريقيا؛ بل أصبح بُعْبعًا مخيفًا لأهل الأرض كلهم، إذ قد ينتشر إلى غيرهم منَ المجتمعات إن لم تتَّخذِ التدابيرَ اللاَّزمة للحَدِّ منه؛ ومن هنا تعالتْ صيحات الإنذار لتوعية المجتمعات من خطورة هذا الداء القاتل.
وقد تبين من دراسة المُتخصصين في علم الطب أنَّ لهذا الوباء عواملَ تكمن في:
أ - الجنوسية (اللوطية): وهي أهم العوامل إطلاقًا، ويمثّل هؤلاء المرضى الغالبية العظمى من مرضى الإيدز.
2 - الإدمان على تعاطي الحُقَن الوريديَّة مِمَّن يستعملون إبْرةً واحدة في حقن المادة المُخَدِّرة من شخص لآخر.
3 - الناعور أو نقص وراثي في عوامل تخثر الدم.
4 - تلقي الدم بشكل مُتَكّرر.
5 - زوجات وأبناء المصابين.
وهكذا ينتقل الداء الخبيث حتى يشمل البشر في أدنى الأرض وأقصاها، إن لم تُتَّخذ التدابيرُ اللازمة لدرء انتشاره!
وأهم ما يميز هذا المرض: هو نسبة الوفيات العالية بين المصابين حتَّى يصل إلى 95 % من الحالات، ذاك هو مرض الإيدز، وتلك هي عوامل انتشاره، فكيف تكون الوقاية منه؟
ليس له من وقاية دوائية أو لقاحية حتى اليوم، وأفضل وقاية تكون بمكافحة اللوطيَّة، وعدم استعمال دمائهم في حالة الاحتياج إلى دم.
كتبت جريدة "تشرين السورية" في زاوية تحت عنوان "البحث عن لقاح" جاء فيه:
"الأبحاث مستمرَّة حول مرض الإيدز على قَدَم وساق في الولايات المتَّحدة الأمريكيَّة وأوروبا، غير أنَّ النَّجاحات التي تحقَّقت في حقل التجارب على الحيوانات لم تظهر فيما يتعلَّق بالإنسان.
إنَّ تلقيح قرد (بجرثومة الإيدز) يقود إلى انْهِيار المناعة لديه؛ لكنَّ المرض لا يتطوَّر في جسده كما هو الحال لدى الإنسان، فالإيدز خاص بالبشر.
الأبحاث مستمرة على أيَّة حال لا تتوقف، وقد لا يتوصَّل العلماء إلى نتيجة؟! ا.هـ.
ولعلَّ اختِصاصَه بالإنسان وعدم تطوُّره في جسد الحيوان أنَّ الأخير لم يقتَرِفْ ذنبًا يعاقَب عليه، فأبعده الله عنه، وكان عقابًا إلهيًّا للمستخفِّين بقواعد الحياة السليمة، والمتلاعبين بنُظُمِها وما بُنِيَت عليه من نواميس وقوانين".
المشكلة خطيرة، والجدال يَحْتَدّ، والمرضُ يستَعِرُ ويستَفْحِل، والوباء ينتشر غيْرَ عابئ بأحد، فالكلّ عنده سواء، منهم عقابًا ومنهم ابتلاءً، والنهاية مَحتومة إلى هاذم اللَّذات، أو إلى حيث ألقت رحلها أم قشعم.
إنَّ اختصاص هذا المرض بالإنسان دون الحيوان درس وعبرة للشَّاردين في هذه الحياة، والمعرضين عن شريعة السماء.
وأهم عوامله كما رأينا (اللوطية) وهي مخالفة صريحة لشريعة الله - عز وجل، وخروج خطير على الفطرة السوية حتى صار شرًّا من الحيوان، فما حدث في التاريخ - على حدّ علمنا - أنَّ حيوانًا ذكرًا نزا على مثله.
إنَّ الإنسان الذي أكرَمَهُ الله - عزَّ وجلَّ - وميَّزه بالعقل عنِ الحيوان الذي يعيش معه هذه الأرض - والذي توجّهه غرائزه - يختلف عنه كل الاختلاف إن هو عرف وظيفته، وأدرك الغاية من خلقه، وسار مع المنطق والعقل.
فالإنسان - وإن كان مشتركًا مع الحيوان في هذه الغريزة - غير أنَّها فيه ليست لمجرَّد قضاء الوطر أو نيل الشهوة، وإنَّما هي من أجل غاية سامية، وهي الإبقاء على النسل البشري والنوع الإنساني، ثمَّ الحفاظ على النَّسب الذي هو شرف الإنسانيَّة المتوارث؛ حتَّى إنَّ العلماء فرَّقوا بين اليتيم من الإنسان واليتيم من الحيوان، فقالوا: اليتيم من الإنسان مَن لا أبَ له، ومن الحيوان ما لا أُمَّ له.
ثُمَّ شاءَتْ حِكْمَة الله - عزَّ وجلَّ - أن تكون هذه الغريزة أقوى وسيلة لارتِباط الرَّجُل بِالمرأة وسَكَن كلٍّ مِنْهُما إلى الآخَر {وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم: 21].
لذلك كانتِ الشَّرائع السَّماويَّة تتنزَّل بين الحين والآخَر تنظيمًا لها - لهذه الغريزة - وضبطًا لتحقيق الغاية التي زود بها منْ أجلها، حتى كان آخرها شريعة الإسلام فحرمت السّفاح واتّخاذ الأخدان؛ لأنَّه سبيلٌ إلى الحرام أوَّلاً، والفوضى الجنسيَّة ثانيًا، وشَرَعَ له الزَّواج وأعلى من شأنه ورغَّب فيه ورَفَعَه إلى منزلة العبادة، قالوا: "يا رسول الله، أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟"، قال - عليه الصلاة والسلام -: ((أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر؟ فكذلك لو وضعها في حلال كان له أجر)).
فغرائز الإنسان إذًا موجهة إلى غايات سامية بنظام دقيق في دائرة الطُّهر والعِفَّة للإبقاء على النوع البشري إلى ما شاء الله، وليكون امتدادًا لحياة الآباء والأجداد بالبنين والحفدة؛ كما قال تعالى: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ} [النحل: 72]، هذا وقد تبيَّن لنا أنَّ الشذوذ الجنسيَّ كان في البلاد الأجنبية وفي أكثَرِها شيوعًا للفاحشة والإباحيَّة الجنسيَّة في أمريكا التي لها القدح المعلَّى في تعرّي المرأة، وفي نيويورك بالذَّات أفسق بلاد الأرض، والتي أقيم فيها نوادٍ للعُراة والعاريات؛ حتَّى لم تَعُدِ المرأة تُثير رغبة الرجل فيها، وذلك لتفنُّنها في التعرّي فرغب عنها، وأفضى الرَّجُل إلى الرَّجُل، وقضى منه وطره كما يقضيه منها؛ ولكن أسوأ وأفحش ما يكون!
ونتيجة هذه الفوضى الجنسيَّة وصلوا إلى أسفل درك في الانحطاط الخلقي، وشُيوع الرَّذائل ثُمَّ بلغ بِهم الأمْرُ حدًّا لم يعُدِ الزنا جريمة يعاقب عليها القانون، ما دام قد تَمَّ برِضِا الطرفين، وخلا من عنصر العدوان، أمَّا إذا حدث فزنى رجلٌ بامرأة ذات زوج؛ فللزَّوج أن يطالبه بتعويض (غرامة مالية) من الرجل الذي أفسد عليه زوجته.
فالعرض في المجتمع المادي المنحل أهون شأنًا من المال، ومن أجل ذلك تهدَّم مجتمعهم وفسدت الأسرة فيه، وفسق الرجال والنساء وانتشرت الأوباء والجرائم الخلقية بشكل لم يسبق له نظير حتَّى كان آخرها (الإيدز) القاتل الماحق!
هذا هو الداء فما الدواء؟ وتلك هي المشكلة فما الحل؟
لقد وجَّه العامِلون والعُلماء في الهيئات الصحيَّة جُهُودهم نَحو التوعية الصحية، فتعالَتْ صيْحاتُ التَّحذير من التَّمادي في هذا السبيل الذي يؤدي إلى دمار البشر المُحقَّق، إنْ عاجلاً أو آجلاً؛ لكنَّهم لم يقدّموا حلاًّ ناجعًا لهذه المشكلة الخطيرة التي باتت تقضُّ مضاجِعَهم إذ صيْحات الاستِنْكار ونشرات التَّحذير لا تكفي في مثل هذه الحال التي تنذر بشرّ مستطير.
وإذا أردْنا حلاًّ فلا بدَّ من العودة إلى منشأِ المُشكلة ومنبتها، ثُمَّ البحث الجادّ عن أسبابها، وسَبْرِ أعماقها وأغوارها.
أساس المشكلة ومصدر الدَّاء الفاحشة بشقَّيْها (الزّنا واللّواط)، فإذا قضَيْنا على الفاحِشة أو أقْلَلْنا منها نكون قد قضَيْنا على الدَّاء، واستأْصَلْنا جذوره وجففنا منابعه واجتثثنا المشكلة من أصولها.
والحل الوحيد الذي لا حلَّ سواه هو الإيمان والتوعية الدينية إلى جانب التوعية الصحيَّة، ولا نقول هذا ادّعاء أو بدافع من العاطفة الدينيَّة؛ وإنَّما نقوله ونحن واثقون مِمَّا نقول، والشواهد على ذلك كثيرة؛ ولكن نكتفي بذكر شاهدين أو واقعتين تاريخيَّتَيْن، وكل منهما على جانب كبير من الأهميَّة، إحداهما: حَصَلَتْ في صدر الإسلام، وثانِيَتهما: حديثة ومعاصرة، وأنا أذكرُهُما لمُجَرَّد المقارنة والموازنة بين ما يفعله الإيمان في نفوس أصحابه وما تعجز عنه القوانين الوضعية مهما أوتيت من ضمانات القوة والإرهاب.
أولاهما: كلُّنا نعلَمُ ما كان للخمر من سُلطان على نفوس مدمنيها في الجزيرة العربية قبل الإسلام، يعاقرونها كلما وجدوا فرصةً لذلك في بيوتهم، ونواديهم، ومجالسهم الخاصة والعامة، ولشدة صبوتهم بها تفننوا في أسمائها، وتوسَّعوا في أوْصافِها شعرًا ونثرًا، وهذا ما جَعَل التَّشريع يُحَرِّمها على التَّدرج لا دفعة واحدة؛ كما كان الشأن مع مُحرَّمات أخرى، حتَّى إذا كانَتِ المَرْحلة الأخيرة من التَّحريم، وأنزل الله فيها نَهْيَه القاطع في قوله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 90، 91].
والاستفهام في قوله تعالى: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} يُسَمِّيه علماء العربية استفهامًا إنكاريًّا؛ أي انتهوا وهو أبلغ من التحريم، كما أنَّ تَسمية الخمر رجسًا وذكرها مع جملة مُحرَّمات لا خلاف فيها منَ الأصنام والميسر والأزلام، وأنَّها سبب في إلقاء العداوة والبغضاء في النفوس ومن عمل الشيطان، كل ذلك مواضع تفيد التحريم القاطع.
وصحابة رسول الله - رضوان الله عليهم - الذين كانوا ضليعين باللغة العربية لم يفهموا منها إلا التحريم، إذ لم يَكَدْ منادي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يَخْرُج بِها على الناس ويطرق سمعهم صوتُه، حتى أقبلوا على الدِّنان يهرقونها والكؤوس يحطمونها؛ بل بلغ بهم الأمر أن بعضهم كان قد شرب نصف كأسه وبقي نصفها الآخر فأبعدها من فمه قائلاً: "انتهينا ربَّنا، انتهينا ربَّنا" هذا ما يفعله الإيمان.
أمَّا القوانين التي يضعها البشر فتعالَوْا نقرأ معًا بتفكُّر وإمعان هاتيْنِ الواقعتيْنِ؛ إحداهُما في غرب الأرض، والثانية في شرقها، وننظر إلى مفعولها.
ففي البلاد الغربيَّة حاولتِ الولايات المتَّحدة الأمريكية ما بين عام 1927 - 1933م أن تمنع الخمر، وأصدرت قانونًا بِمنْع تداولها وذلك بعد أن رأتْ أضرارَها، وأحسَّت بأخطارها.
وأنفقت الأموال الطائلة في الدعاية ضدها وتبيان نتائِجها وعواقبها على الفرد والأسرة والمجتمع والدولة؛ ولكن دون جدوى فلجأت إلى التهديد وأنذرت بالوعيد، وفعلاً نفَّذت وعيدها فعاقبت وأعْدَمَتِ المُخالِفِين، وصادَرَتْ أموالَهم؛ ولكن كل ذلك لم يَرُدَّ الشاردين، ولم يَمنَعِ الشَّاربين؛ بل أقبلوا على الكؤوس في الخفاء وعلى ملء الأقداح سرًّا في البيوت إلى أن اضطرت إلى إلغاء الحَظْر بعد سبع سنوات منَ المُلاحقة المستمرّة.
وأما في شرق الأرض فما أصْدره الاتحاد السوفيتي سابقًا - قبل انهياره - منَ القوانين الصَّارمة في منع الخمر المسماة عندهم (الفودكا) للحد من شربها لما رأوا أخطارها وأضرارها؛ ولكن كسابقتهم لم يتوصلوا إلى الغاية المتوخَّاة؛ بل أقبل الناس عليها يشربونها حينًا بعد آخر، والناس هم الناس سواء في شرق الأرض أو غربها ما داموا بلا إيمان يعصمهم، أو خوف من الله - عز وجل - يردعهم.
ترى ما الذي نستنتجه من هذه الموازنة؟
لماذا الالتزام التَّام والتَّنفيذ الدَّقيق والفوري بالأمر الإلهي الآتي من منبع إيماني، دون مُراقبة من أحد سِوى سلطان الإيمان، وعدم الالتزام؛ بل الاستِخْفاف بالأمر القانوني البشري؟ إنَّه لدليل واضح وبرهان قاطِع على ما للإيمان من هيمنةٍ على النفوس، وأثر على أعمال الناس وسلوكهم الأخلاقي، وعدم جدوى القوانين التي يضعها البشر إلاَّ بمقدار سوطها إذْ لا قناعةَ ولا إيمان!
لقد رأينا ما فعلتْه آيتان من كتاب الله - عز وجل - في نُفُوس المؤمنين به؛ رغم بداوتهم وبُعْدهم عن مَراكز الحضارة والمَدنِيَّة يومئذٍ، ولا يزال مَفْعول النَّهي الإلهي يعمل عمله في نُفُوس المؤمنينَ حتَّى اليوم.
وإذا ما التَفَتْنا يمينًا وشمالاً وشرقًا وغربًا؛ نتلمَّس الحل لهذه المشكلة الخطيرة (الإيدز) الداء العضال لا نجد لذلك سبيلاً إلا الإيمان - الذي هو الطَّريق ولا طريق سواه للأسباب التالية:
1 - الإنسان في الدين هو الهدف والغاية من كل التَّشريعات المنزلة لإصلاحه وسعادته وتعريفه بوظيفته ومهمته، فقد جعله الله خليفةً في الأرض، وفضله على كثير ممن خلق تفضيلاً، قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30]، وقال جل ثناؤه: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} [الإسراء: 70].
2 - الإنسان مكلَّف ومُشرَّف لا كمٌّ مُهمل، وبناؤُه هو الهدف، والتكليف تشريف - أمرًا ونهيًا - فإذا عرف وظيفته، وأدرك الغاية من وجوده، وهدي إلى خالقه، واتبع النور الذي أنزله - عاش حياة سعيدة، قال تعالى: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى} [طه: 123].
وأمَّا إذا أهمل وضيَّع، وأعرض ونأى بِجانبه؛ حلَّ به الوعيد الشديد، وعاشَ حياته شقيًّا تعيسًا مَهْما تعلَّم من العلوم واخترع من الصناعات والتقنيات، ومهما جمع الأموال وأقتنى من وسائل الترفيه المادي وما وصلت إليه يده، فإنَّ كل ذلك لا يُجديه فتيلاً عن شقائه النفسي وتمزُّقه الدَّاخلي، قال تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آَيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} [طه: 124 - 126].
والمعيشة الضَّنك ببلاغة القرآن المعجز تعني أنواع المصائب وألوان العذاب المادي والنفسي والتاريخ على ذلك من الشاهدين؛ إذ كلَّما ضلَّت البشرية، وتنكَّبَتِ الطريقَ المستقيم، وسارت في سبل الضلالة والغواية، وتَعامَتْ عن هداية السماء وتعاليم الأنبياء - حلَّتْ بِها الآفات الخطيرة والكوارث الماحقة، وعذاب الله الأليم.
ومن هذا ما قصَّه الله - عز وجل - علينا في القرآن الكريم من قصص أنبيائه ورسله الكرام - عليهم الصلاة والسلام - مع أقوامهم عِبْرة وعِظة {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} [النساء: 122]؛ حيث قال: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [يوسف: 111].
وقدِ اخترنا من هذه القصص ما جرى لنبِيِّ الله لُوط - عليه السلام - معَ قَوْمِه لما له منَ الصِّلة الوثيقة والدلالة القويَّة بهذا المرض الخطير (الإيدز)، إذ تبين من تجارب المُتَخَصِّصين أنَّ أهمَّ عوامله (اللّوطية)، وهي ما فعله قوم نبي الله لوط من قبل هؤلاء الجنوسية، فدمَّرهم الله وأبادَهُم ولم يَنْجُ منهم أحد.
والمصائب نتائج متمّمة لذُنوب مُتقدِّمة، وما كان الله لِيُصيبَ قومًا بِمُصيبة إلاَّ بما قدَّمتْ أيديهم: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود: 117]، قال تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم: 41].
فإذا انتبهوا لسوء فِعْلتهم وشنيع سلوكِهم فأَقْلَعُوا عنها وأصْلَحوا من شأنهم وعدَلُوا عن ظلمهم تكون المصيبة عندئذٍ سبب شِفائهم من أمراضهم وعِللهم.
وإن هم لَجُّوا في غَيِّهم واستمرُّوا في ضَلالهم وسوء فعالهم كان الدَّمار مصيرهم، والمحق مآلهم قال تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} [الإسراء: 16].
وهذه العقوبات التي ينزلها الله - عزَّ وجل - بالخارجين على أحكامه تتناسب وعظم الجريمة التي اقترفوها بالزلازل حينًا، وبريح صرصر عاتية آخر، وبإمطار الحجارة عليهم مرة، وبالصيحة أخرى، ثم بالإيدز أخيرًا، آيات بينات لعلهم يرجعون.
والشيء بالشيء يذكر فقد كتبت "مجلة الدفاع العربي" تحت عنوان: "أمريكا تبحث عن عدو جديد بعد تفردها بزعامة العالم" جاء فيها، "فالمعروف حتَّى الآن بأنَّ ما يهدد أمريكا تمامًا أكثر من عدو يعيش في كل أسرة، وفي كل بيت، وفي الحديث عن نفقات المصائب والنَّكبات التي يتعرَّض لها المجتمع الأمريكي نجد بالنسبة لمضاعفات ظهور وانتشار طاعون الإيدز أنَّ نفقات البحث العلمي الخاصَّة بِهذا الوباء ترتَفِعُ بِصِفة مستمرَّة إلى جانب سلوكيات الحذر الوقائي، وما يعكسه ذلك من الاضطراب المعنوي، وما يترتب على كل هذه الإجراءات من مضاعفات مباشرة تحد من الإنتاج، وتقلل من الكفاءة والقدرة الإستراتيجيَّة للمجتمع.
وفي تقرير (مكتب المحاسبة العام) الرَّسمي للإدارة الأمريكيَّة بأنَّ الولايات المتَّحدة - بالنسبة للعالم - تضم أكثر نسبة من المرضى المصابين بهذا الوَباء، وأنَّ الميزانيَّات المُعلنة للتَّصدّي لهذا العدوّ لا تعبر تمامًا عمَّا ينفق على حملات التَّوعية وإجراءات العَزْل والوقاية للحَدِّ منِ انتشاره، وأن ما يقدر سنويًّا في الولايات المتَّحدة وحدها يتجاوز (40) مليارًا من الدولارات قابلةً للزِّيادة؛ لهذا تصدَّى الرَّئيس الأمريكي (بوش) بذكائه وواقعيته إلى الدَّعوة الجادَّة لتطوير التَّعليم، وطالب بإجراء ثورة حقيقيَّة لهذا الغرض على أن يتضمَّن برنامج تطور التَّعليم توعية النَّشْء والشباب بأخطار الفوضى الجنسية، وفي التَّعريف العلمي والإرشادي بأخطار المخدرات والالتزام بالأخلاقيَّات (والتربية الدينية)؛ كسلاح يحمي الإنسان من مخاطر الرَّذائل، إذًا باعتراف الرَّئيس الأمريكي- وهو أعلى سُلْطة في الدَّولة وأكبر رأس فيها - إِنَّ التَّربية الدينية والأخلاق هما السلاحان الجديران بِحماية الإنسان من الانحراف نحو الرَّذائل فهل للعالم العربي والعالم الثالث أن يعقلا؟!
ثم تذكر المجلة أن أعدى عدو لأمريكا في داخلها داخل المجتمع الأمريكي المُهدَّد المخدرات، ومرض الإيدز، وانتشار الجرائم، بالإضافة إلى ما تعرَّض له مُجتمع (القوة العظمى) من آيات الله وقضائه وقدره باستمرار مواسم الحرائق الكبرى على امتداد تسع سنوات متوالية في الغابات الإستراتيجيَّة الكبرى إلى جانب طعنات الجفاف القاتلة التي اشتدَّت بصفة خاصَّة عام 1988م، أدَّى إلى نضوب الأنهار وأهمها (الميسيسيبي)، الذي أوقف حركة النَّقل المائية وتسبب هذا في إرهاق وإنْهاك وسائل النقل الأخرى، وضاعف من نفقات الإنتاج والخدمات، وتحملت الدولة أكثر من (34000) مليون دولار لتغطية الدَّعم للمزارعين وهيئات تسويق المحاصيل الزراعيَّة، وكان ذلك يزيد كثيرًا عما تحمَّلتْه الولايات المتَّحدة في حرب الخليج القتالية وفي إدارة أزمتها.
ولنعد ثانية إلى قصَّة نبي الله لوط - عليه السلام - إذ فيها العبرة كل العبرة.
وخلاصتها أنَّ لوطًا بعثه الله - عزَّ وجلَّ - إلى أهل (سدوم) في الأردن وكانوا قومًا ذوي خلق سيئ وشرك بالله، فأمرهم نبيُّهم بتقوى الله وطاعته، وأن يأتوا ما أحله الله لهم من أزواجهم، {فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} [البقرة: 222]، وأن يجتنبوا إتيان الذكران في أدبارهم فما كان جواب قومه إلا أن قالوا متعجبين ومهددين: كيف تنهانا عن عمَلِنا هذا، لئن لم تنته يا لوط عن قولك هذا لنخرجنك من قريتنا، قال لهم نبيهم إني لعملكم من القالين المبغضين، فإنه عمل يتنافى مع الإنسانية؛ بل ترتفع عنه الحيوانات البهيمية فلما استمرُّوا على عملهم ونفد صبره، ولم تنفعهم مواعظه، دعا عليهم فقال: ربِّ نَجِّنِي وأَهلي مِمَّا يَعْمَلُونَ، فنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ، إِلاَّ عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ الهالِكين وهي امرأته، ولم تكن مؤمنة معه؛ بل كانت تحب القوم الكافرين وتنقل إليهم الأخبار فكانت من الهالكين، إن في ذلك لآية حيث أهلك العصاة المذنبين، ونجى المؤمنين الصالحين.
ولتقرأ القصة ببلاغة القرآن وإعجازه قال تعالى: {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ * أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ * وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ * قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ * قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ * رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ * فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ * ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآَخَرِينَ * وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الشعراء: 160 - 175].
ويورد القرآن الكريم تفاصيل أخرى كذلك في سورة هود: 77 - 83، إذ يقول تعالى مبينا عاقبة قوم لوط: {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ * مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} [هود: 82، 83].
وتأمَّل - عزيزي السامع - في الآية الكريمة جيدًا تجد أن عقوبة قوم لوط كانت عقوبة مركبة؛ لأن جريمتهم مركبة، وفي منتهى القباحة والبشاعة، فهي مُحاربة للفطرة وخروج عليها وعدوان على الطبع السليم، وما فعل الله بهم هو:
1 - قلب الله تعالى الأرض بهم ودفنهم في باطنها.
2 - أمطر الله عليهم حجارة من طين طبخ بالنار يشبه الآجر المشوي، أرسله متتابعًا متوهجًا، وهي فوق ذلك معلمة خاصة بهم.
وقد أثبت العلم حديثًا أن (فيروس الإيدز) لا يموت إلا بالحرق والدفن تحت التراب، وعليه فإن فيروس الإيدز موجود منذ عهد قوم لوط أصحاب اللوثة الأولى.
وقد أنْهى الله ذلك الفيروس من العالم بِحَرْق المجرمين المسرفين، وقلب الأرض بهم ثم دفنهم في بطنها حتى إذا عادت الجريمة عادتْ لعنة الإيدز من جديد، ولذلك قال الله تعالى: {إنَّ فِي ذَلِكَ لآيَة}؛ أي عظة وعبرة، وفي موضع آخر: {ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآَخَرِينَ * وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ * وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [الصافات: 136 - 138].
حقًّا إنَّنا نمر عليهم ونعرف تاريخهم ولوثتهم، ونعرف مآلهم... ولكن هل من مُدَّكِر؟!
ولم ينفرد الإسلام بتحريم هذه الفاحِشة؛ وإنَّما حرَّمها كلُّ الأنبياء الذين سبقوا محمدًا - عليه الصَّلاة والسَّلام.
فهذا السيد المسيح - عليه الصَّلاة والسَّلام - يقول لأتباعه: "إنَّه قدْ قيل لكُمْ لا تَزْنوا، أمَّا أنا فأقول لكم: كل منِ اشْتَهَى حَليلة جَارِه فقد زَنَى"، فهو يجعل مُجَرَّد الهم بالفاحِشة كأنَّه زنا.
والسَّيد المسيح بهذه الكلمات المُختصرة يرسم للمُجتمع البشري قاطبةً الطَّريقة المُثْلى للوقاية منَ الإيدز، ثم جاء من بعده أخوه محمد - عليه الصَّلاة والسَّلام - والأنبياء إخوة والدين واحد يقول - عليه الصلاة والسلام -: ((نحن الأنبياء أبناء علات، الأب واحد، والأمهات شتى))؛ أي العقيدة واحدة وهي الإيمان بالله الواحد لا شريك له، والشرائع مختلفة: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة: 48].
جاء محمد - عليه الصلاة والسلام - ليكمل ما جاء به المسيح والأنبياء من قبله ويؤكد على الحرمات التي سبقه بها فيقول القرآن الكريم: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} [الإسراء: 32]، ويقول نبي الهدى: ((العينان تزنيان وزناهما النظر))، وهو مؤكّد لقول المسيح السابق؛ إذ لا شهوة بلا نظر، والنظر بريد الزنا، ثم جاء الفقهاء فوضعوا لنا قاعدة هي "كلّ ما أدَّى إلى مُحرَّم فهو مُحرَّم".
وبعد: فما أحرانا أن نُقْبِل على القرآن وتعاليم الأنبياء فنحلّ حلالهم ونحرّم حرامهم، وما أشد حاجتنا إلى الرجوع إلى سنَّة رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - علاجًا شافيًا، ودواء واقيًا وتشريفًا وافيًا، لكلّ أمراضنا وعِلَلنا وحلاًّ لِمُشْكِلات عصرنا التي يعاني منها إنسان اليوم، وصدق رسول الله - عليه الصلاة والسلام - إذ يقول: ((ولم تظهر الفاحشة في قوم حتَّى يُعْلِنُوا بِها إلا فشا فيهم الطاعون والأمراض التي لم تكن مَضَتْ في أسلافهم)).
وما أروع القرآن العظيم حين وضع، وبيَّن الوسيلة الواقية في آية واحدة هي: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} [الإسراء: 32].
فالوقاية الوقاية، والبعد البعد عن الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وذروا ظاهر الإثم وباطنه، فدرهم وقاية خير من قنطار علاج... وصلى الله تعالى على سيدنا محمد وسلم، وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.
اسفه الموضوع طويل ولكن هااااام